استحضر الفاعل الثقافي محمد برادة، خلال ندوة نظمها مركز التنمية لجهة تانسيفت يوم السبت 14 دجنبر بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، (استحضر) محطات هامة من حياة الفقيد أحمد شوقي بنيوب، وذلك بحضور فعاليات حقوقية وطنية وجهوية.
نص الكلمة:
بسم الله والصلاة والسلام على خير الرسل ..
التحية للاخوة في ” مركز تانسيفت ” ورئيسه الدكتور الأحمدي و لعائلة الفقيد والحضور الكريم.
الشكر الجزيل للأخ مولاي “عبد العزيز السيدي” على مجهوداته القيمة لإنجاح هذه التظاهرة، وإشراك الصداقة التي تتيح لي البوح بكلمات من ذاكرة علاقة صادقة مع الفقيد استمرت أكثر من نصف قرن، منذ نونبر 1974..
من موقع الصديق اتحدث اليوم، أما صفة ” فاعل ثقافي” شرف لا أدعيه !
الحضور الكرام .
في نهاية صيف 2022 ، دعاني الأخ شوقي إلى ضيافة استغرقت ثلاثة أيام بشاطئ على أبواب الصحراء “اكلو “، مع طلب له بإحضار “طنجيتين” بمواصفات دقيقة لا يتقنها إلا المراكشي الأصيل، وبعد الضيافة ، حظيت منه بهدية قوية المعنى، عبارة عن نسخة أنيقة جدا من كتاب “الشفا “لأحد الرجالات السبعة لمراكش، القاضي عياض الذي قدمه الفقيد بالكلمات التالية ” نموذج القاضي المثقف الملتزم بالشريعة ( 1149 م) الذي قدم بيانات رفيعة في القواعد الفقهية وتطبيقاتها “.
في هذه الضيافة ، وانتم اعرف برصيد الفقيد العلمي والعملي في ” فن حقوق الإنسان” . تحدث كثيرا عن “أسرار” التجربة وسعة طموحه التأصيلي و البرنامجي ، بعمق العارف / الحكيم ، وبحرارة الوطني “المجدوب” .
سأكتفي اليوم بإشارات 3 اعتبرها ثقيلة في ميزان عطاءاته …
1/ كيف انتقلنا – منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي- من “مناضلين” في جمعيات حقوقية ” صغيرة ” تركب موجة الشعارات المؤججة للمعارضة اليسارية ضد الدولة، إلى ما نحن عليه اليوم ، مغرب قوي بالثقة في النفس ، قوي بنخبة ودولة وجمعيات مدنية تحمل باستحقاق ومسؤولية ومعرفة ، مشروع النهوض ب ” حقوق الإنسان ” داخل المغرب وفي المنتديات الدولية .
كان “الأستاذ شوقي” في قلب هذا الانتقال وأمواج تحولات الفهم . فعن فهم ظروف ولادة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ” سنة 1948- ببنوده 30 – من طرف 6 بلدان غربية كبرى بمشاركة شكلية لدولة لبنان (ومباركة مجتمع دولي من 58 دولة لاغير!) . سيفتح معك الاخ شوقي ملف ” إعلان حقوقي عالمي ” غير معزول عن الهيمنة الاستعمارية لما بعد الحرب العالمية 2 ، وعن روافع النظر الفلسفي/القانوني الغربي ، القوي الصِّلة باعلانات الحقوق الإنجليزية (1689م) والفرنسية ( ثورة 1789م) والأمريكية ( الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776م). بمناسبة معركة الحقوق الكبرى داخل أوروبا ضد الكنيسة ودولة القيصر( ما لله لله وما لقيصر لقيصر!) ..
بخصوص هذه الإعلانات المرجعية ، يكشف الفقيد شوقي الحجاب عن روحها الغربية مع مفكري “القانون الطبيعي” و”العقد الاجتماعي” و”فصل السلط”. مع ” لوك”، “روسو”، “مونتسكيو ” ،”هوبس ” و “ميكيافيلي ” الذي ولد 63 سنة بعد وفاة العلامة ابن خلدون ، أبرز مؤسسي علم الاجتماع والسياسة (1406م) . صاحب الرصيد العلمي الغني ، حيث يستفيض الفقيد شوقي في الشرح المبدع للصِّلات التي نسجها بين العدل و الاستقرار و ” العصبية ” .
7 قرون قبل ذلك . اهتم الأستاذ شوقي كثيرا بالعالم محمد بن الحسن الشيباني أحد أبرز المفكرين القانونيين (المتوفى عام 805 م) الذي يعتبره العلماء الغربيون اليوم مؤسسا للقانون الدولي الإنساني . مثل الباحث الألماني “جوزيف شاخت ” والبريطانية “كارول هيلينبراند” التي تعترف بأنه سبق معاهدات جنيف بحوالي ألف سنة !. فلأول مرة يعرفني الاستاذ شوقي بهذا العالم الفذ صاحب” موسوعة السير الكبير” ، والذي يعتبر ميراثه العلمي اوثق عقد وأجمله بين الشريعة الإسلامية والقيم الإنسانية النبيلة ..
أما بصدد تاريخنا في “المغرب والأندلس” الذي لم يتميز بالخصومة بين العلم والدين . ولم يعرف أيضا سلطة ثيوقراطية مثل أوربا . سيرجعك الشغف التأصيلي للأستاذ شوقي الى علماء وحكام مغاربة مثل ” المهدي ابن تومرت ” صاحب نظر الإمامة العادلة ” ومؤسس الحركة الموحدية الذي جمع بين القانون والسياسة (1130 م ) .
لم تكن غاية التنقيب في الماضي البكاء على الأطلال ( كما كان يردد) ، بل البرهنة العلمية على حاجتنا اليوم الى ترسيخ مشروعية حقنا في الاختلاف ، حتى نساهم مع الآخرين – من موقع الشريك وليس التابع – من أجل ميثاق ارقى ” للدفاع عن آدمية الإنسان ” ، ميثاق يعبر عن تطلعات المجتمع الدولي بكل حضاراته . خاصة وأن للمغرب اليوم دور كبير في مجلس حقوق الإنسان بجنيف في تقوية الحوار بين الدول الإسلامية والغرب من أجل إصلاحات لتعزيز الشفافية والشمولية .
2/ رغم التطور الهائل لمنظومة حقوق الإنسان كونيا اليوم (خاصة مع مستجدات آليات التنفيذ والمراقبة والشكاوى ) ، يدهشك الفقيد شوقي بالسؤال/ الحكمة :
هل كلما تطورت الحضارة شقي الإنسان وتعرض الى المزيد من الظلم ؟
من تجربته يحدثك :
موضوع “الحماية الدولية لحقوق الإنسان” من أعقد القضايا التي تابعها الفقيد بدقة ونباهة وعلم بعد أن استغلت من خصوم المغرب في منابر الأمم المتحدة لتمرير مواقف التجزئة والانفصال . انسجاما مع فهم مضلل لحق ” تقرير المصير” يستعمل شر استعمال للنيل من حقوق المغرب في وحدته الترابية . ولقد تصدى المغرب لكل ذلك بالحقائق و الدلائل القانونية والتاريخية. وفي مقدمتها كون الدولة والملكية عندنا ( وعمرهما يتجاوز 13 قرن !) لا يمكن فصلهما عن المجال الجنوبي بمختلف صحاريه .
كما أن التحولات التي شهدتها فترة الاستعمار، والتوجه نحو مفهوم ” الدولة الأمة ” المؤطر لصياغة قانون ما بعد الاستعمار ، حرمت / ولازالت عددا من البلدان من حقها التاريخي في كل أراضيها ، كما هو الحال بالنسبة لقضية الصحراء المغربية ..الغربية والشرقية ايضا !
بالاضافة الى المثال الحي السابق ، يضع ” الاستاذ شوقي ” تحت مجهر التحليل معطيات صادمة أخرى عن استفحال الظلم الذي وصل الى حد تدمير حضارات كبرى (مثل العراق وسوريا وفلسطين) رغم مرور 70 سنة على التأسيس الأممي لحقوق الانسان . بل والى الانتصار الى المثلية والفحش الأخلاقي باسم الحريات الشخصية..
لذلك ، نحن مطالبين بمواصلة المشاركة العلمية والحضارية الفعالة في المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لتطوير المعايير والقيم التي تنصفنا ..
3/ أما الإشارة الأخيرة فقد تقربنا من الجواب عن سبب اختيار”المناضل شوقي ” على رأس المندوبية / المؤسسة الدستورية ؟
غير بعيد عن أسرار التعيين / الثقة الملكية . يذكرك الأخ شوقي بثوابت أحاديثه عن دور المندوبية المتكامل مع باقي المؤسسات المدنية والرسمية في بناء السياسات العمومية الوطنية والسياسات الدولية لحقوق الإنسان . ويؤكد على حيوية الدفاع عن “استقلاليتها ” لتقوم بوظيفتها “وطنيا ودوليا ” . وهو العمل الذي يرتكز على المصداقية وعلى الكفاءات العلمية والمهنية المعتبرة .مع مراعاة الحياد والموضوعية والمصلحة العامة . ويؤكد ان هذا العمل يحتاج الى الكثير من الصبر وقوة الحجة ، خاصة وان الملفات تثير الجدل وتحرك الافتحاص الحكومي والمدني . الأمر الذي يضع المندوبية وتقاريرها أمام امتحان مساءلة منظمات دولية قوية ، وفي قضايا حيوية بالنسبة لبلادنا وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية ..
مما سبق يمكن أن نفهم “سر” التعيين الملكي على رأس إدارة “مندوبية حقوق الإنسان ” ؟
كانت بحق مهمة تأسيس شاقة . والطريق لم يكن مفروشا بالورود حتى من طرف “الأقربين” (!) . أما ” سر ” النجاح في المهمة – يهمس الفقيد شوقي – فلن تجده إلا في روح وقوة السند ، في المشروع الملكي الأساس في البناء الوطني والدولي لحقوق الإنسان في مغرب اليوم ..
وفي ذلك يتنافس المتنافسون !
دليلنا اليوم عن صواب نظر الفقيد و ثقته في قوة الرؤية الملكية التي تحكمت في المشروع . دليلنا وثيقة تاريخية هامة صدرت يوم 6 دجنبر الأخير 2024《، بمناسبة تخليد الذكرى 20 لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة . رسالة ملكية تاريخية الى الندوة التي نظمها البرلمان المغربي حول ” التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية ” ..
في هذا الورش الوطني الكبير، يساهم جيش من الكفاءات الوطنية حسب اعتقاد الفقيد ، منهم من يحضر معنا اليوم ومنهم من لا يظهر في الصورة كما يقال ..
تحية لهم جميعا ،،،موتى وأحياء ..عبد الرحمان اليوسفي ، ادريس بنزكري ، فؤاد علي الهمة ، ياسين المنصوري ، رفيقه الوفي عباس بودرقة ووووو
تحية كبيرة أيضا لكريمته الدكتورة سعاد اسميرس وابنه البار بنيوب أنيس
الحضور الكرام ..
الحياة ظل زائل ، والبقاء لمن يزرع في القلوب الإيمان والعمل الصالح ..
لن يغيب عنا ابدا الفقيد احمد شوقي .. لن يغيب من اهتدى بأن يميز نفسه بالعلم والعمل ..ويبرأ من منافع الدنيا واغراءاتها ..
فراق الاحبة لا شك مؤلم ..و لقاء أرواحهم حق وحقيقة ، الآن وغدا ..
تغمد الله فقيدنا بواسع جوده وكرمه ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..