ككل العائدين من الموت، عدت لأحيا وأغني وأقرأ وأكتب نكاية في الموت والصمت وضدا في الوقت..
هذا النص إكراما لأرواح
من غادرونا من البسطاء
حلم باهض الثمن
أمام هول فاجعة مدينتي وأحوازها، كانت المسافة مع الحدث ضرورية لإستيعابه وتقبله والكتابة عنه.. مسافة بحجم بُعد آخرِ الدواوير عن أول البلاد، وأول الحب عن آخر الخيانة، وأول المطر عن إنتظار حبة زرع عطشى..
هناك خلف الجبال العالية جدا، بيوتٌ واطئة جدا.. نسيتها خرائط العالم وتبنتها البطاقات البريدية الملونة، لتُسَوِّقها أمكنةً غريبة الجَمال وفريدَتَهُ.. لعل سائحا يغامر بسيارته الرباعية الدفع في منعرجات الطرق التي لا تؤدي إليها، فيتوقف لإرتشاف كأس شاي وهو مذهول أمام عدد عيون الأطفال ذوي الوجنات الحمراء
الذين تحلقوا حوله وهم يضحكون ويتغامزون من صفرة شعره، وزرقة عينيه.. من غُربته ولَكْنَته التي لا يَستطيعون فَكَّ شِفْرتها.. بيوت طينية
تسكنها عيون تنام على حلمٍ لتصحو على أمل.. حلم بسيط جدا وأمل أبسط: أن تتذكرها مدينةٌ بعيدةٌ نسيت أنها الأم البيولوجية والجيولوجية لتلك الدواوير، أنجبتها لكنها تخلت عنها وعن رعايتها..نسيتها، وتركتها في دوامة حلمها الأبدي، وحقها في الذكرى والتذكر.. في البِر والود والإحسان.. في الإعتراف وخفض جناح الذل من الرحمة
..في الحق في الحياة لا في شبه الحياة.
لم تكن الوجوه المسكينة التي تسكن البيوت الواطئة تعرف أن كل العواصم، من الماء إلى الماء خائنةٌ وبدون ذاكرة.. مع ذلك إستمرت في إعداد الشاي للسياح، وإستمر الأطفال في التحلق حولهم والإبتسام والتغامز..كان الأهالي يعتقدون أن المدينة البعيدة سوف تأتي إليهم يوما ما لتشرب الشاي معهم حالما يخبرها سائح أنهم هناك، لا زالوا أحياء على بوابات الفجر منتظرين.. مُكابرين.. وصابرين.. وسترى شظف العيش الذي يعيشونه، فتحن وتعطف ويرق قلبها لأبناء رحِمِها..لم يكونوا يعرفون أن حلمهم ذاك صعب التحقق صعوبة الطرق التي لا تؤدي إليهم..وأن تحقيق ذلك الحلم لن يكون هينا ولا ممكنا إلا بالمرور فوق جثثهم.
تلك الليلة، كان على أحدهم أن يتدخل بين الأم وأبنائها المنسيين.. إختارت الأرض أن تزلزل زلزالها، وتخرج أثقالها لتحدث أخبارها وتتكلم بالنيابة عن أهالي البيوت الواطئة وتترافع في قضيتهم.. حينها فقط، هَبّت المدينة البعيدة من سباتها ونسيانها المضني والمخزي..غادرت سريرها الوثير وهي تفرك عيونها من نوم لم يكتمل..ركبت سياراتها وشاحناتها وطائراتها.. حاولت الوصول إلى البيوت الواطئة فخذلتها الطرقات، وبحثت عن الضوء فلم تجد المصابيح ولا أعمدة الكهرباء.. حتى الهواء بدا وقد إختلط بالغبار بعدما مر الموت من هناك كالبرق، تاركا خلفه ركاما من التراب والدمع والأنين والهشيم.
وحده الظلام كان بانتظار قدوم المدينة البعيدة.. وهنا وهناك تفرقت أجسام شَتاتِ من تبقى من الحالمين حيا رغم أنفه، ينتظر أن يُدركه الصباحُ ليَتَحوَّل شاهدا يعيد رواية الحكاية في حلقةٍ وسط ساحةٍ في مدينةٍ وبلادٍ أرادوها مجرد “كارط بوسطال”.
مريم الأزدي- أيلول الأسود 2023