قراءة في كتاب “أحميدة الباهري… رحلة نغم” لأنس الملحوني
بقلم: زهير شمشوب
انخرط البحث التاريخي في الجامعة المغربية منذ أواخر القرن العشرين في ورش البحث البيوغرافي مندمجا في أغلب الأحيان بمجال البحث في علم النفس، فبرزت وحدات البحث والتكوين، سواء في أسلاك الماستر أو الدكتوراه، للاشتغال على مواضيع بحثية تتناول سير شخصيات وطنية توزعت بين أعلام السياسة، والعلم، والأدب، على اختلاف ضروب هذه المجالات وأصنافها… لكن في المقابل، يلاحظ أن هذا الاهتمام لم يطل شخصيات من مجال الفن، خاصة الإبداع الموسيقي، وذلك على الرغم من غزارة الأسماء الفنية المبدعة التي أغنت الثقافة المغربية، وأبرزت تميزها محليا، وإقليميا، ولم لا دوليا.
في مواجهة هذا الفراغ الثقافي، تعالت أصوات تنادي بإعادة النظر في الموقف تجاه أعلام الفنون المغربية، لا سيما المرتبطة بالفنون الشعبية التي تشكل جزءاً من الهوية الثقافية الوطنية. وفي هذا الإطار، تجلى الاهتمام بإحياء رموز فن العيطة وفنون الفرجة بمختلف أشكالها، باعتبارها ذاكرة حية للإبداع المغربي الأصيل. ومن بين الجهود البارزة التي تستحق التنويه، يأتي عمل الأستاذ والإعلامي أنس الملحوني، الذي وثق في مؤلفه القيم “احميدة الباهري… رحلة نغم” صفحات من حياة الفنان احميدة الباهري، مضيفاً عنوانين فرعيين يعكسان جوهر الكتاب “فارس من ذاكرة الأغنية الغيوانية” و”سيرة فنية 1972-2016″. وقد صدر هذا العمل المتميز عن جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد سنة 2024، بطباعة راقية من المطبعة والوراقة الوطنية، ليصبح مرجعاً ثقافياً وأدبياً يساهم في إحياء الذاكرة الفنية المغربية وحفظ إرثها.
يقع الكتاب في 288 صفحة من الحجم المتوسط، تتبع فيها المؤلف حياة الفنان أحمد الباهري الشهير بـ “احّْميدَة” وتجربته الفنية عبر مدخل عام، وتقديم، ثم تسعة فصول وصل بينها بمقتطفات من أشعار الغيوان، زادت المحتوى جمالا وتنميقا، وفي خطوة لتأكيد التوجه التوثيقي كما أراده الكاتب، عزز محتوى الكتاب بعدد مهم من الصور الشخصية، والجداول الإحصائية، وأغلفة الأشرطة الغنائية، التي أنتجها الفنان احميدة الباهري.
افتُتح الكتاب بمدخل عام عرض فيه المؤلف أنس الملحوني بداية علاقته بالفنان احميدة الباهري التي نشأت إثر استضافته في مجموعة من البرامج الإذاعية التي كان يعدها على أثير إذاعة مراكش الجهوية بين عامي 2016 و2022. وقد أتاحت هذه اللقاءات، إلى جانب جلسات خاصة، تجميع معلومات ووثائق كافية خصيصا لإعداد مُؤلف يوثق سيرة أحمد الباهري الذي يعتبر أحد أعلام فن المجموعات الغيوانية بوجه عام.
في سياق الحديث عن شخصية احميدة الباهري، قدم المؤلف السياقات السياسية والاجتماعية التي ظهرت على إثرها أغنية “مجموعات الغيوان” وعلاقتها بالفن المسرحي، مبرزا دور مدينتي مراكش والدار البيضاء في جعل فن الملحون وسيلة للعمل المسرحي ثم الغنائي، في محاولة أراد لها أهل الميدان أن تميز الموجة الشبابية السبعينية في المغرب عن غيرها من الأنواع الغنائية الغربية التي كانت تجتاح البلاد.
جال المؤلف في الفصل الأول من الكتاب في طفولة أحمد الباهري متناولا الوسط العائلي الذي لم يكن خاليا من عوامل التأثير المساهمة في إنشاء شخصية احميدة الباهري الفنية، فالأب كانت له علاقات بوجوه فنية مراكشية، وكان شغوفا بفرقة “بن حمامة” للعيطة الحوزية، ضاربة الشهرة في مرحلة الستينات ـ وهذه الفرقة لوحدها تلزمها دراسة خاصة ـ كما أن وجود آلة الگرامافون في البيت، أضفى لمسة فنية على شخصية أحمد الطفل، إضافة إلى ما استوعبه بوعي أو دون وعي من تأثيرات مستمدة من نشأته في أزقة مراكش العريقة، لا سيما حومة الموقف”.
كانت بداية ولوج ميدان الفن عبر دار الشباب بالحي المحمدي في مدينة مراكش في المرحلة الإعدادية، وهو التوجه الذي ما فتئ يتطور حتى وصل إلى تأسيس أول تجربة مجموعاتية لأحمد الباهري مع مجموعة “طـّْيُورْ الغُرْبَة” سنة 1972 كتجربة متأثرة بظهور ناس الغيوان وجيل جيلالة، لكن مع وجود صوت نسائي تمثل في وجود الفنانة سعيدة بيروك، ويبدو أن حداثة سن أعضاء هذه المجموعة جعلها تنقسم وتتفرق قبل أن تترك أية بصمة فنية حقيقية. وعلى الرغم من ذلك، حققت المجموعة صدى في الوسط الفني، جعل محمد البختي يسارع إلى عرض فكرة تأسيس مجموعة غنائية جديدة تجمع الشريف لمراني إلى جانب عناصر “طيور الغربة” أحمد الباهري، وشقيقه محمد الباهري، وسعيدة بيروك، أطلق عليها اسم مجموعة “لَمْشَاهَبْ”.
تجربة احميدة الباهري مع مجموعة لَمْشَاهَبْ هي موضوع الفصل الثاني من الكتاب، وهي تجربة جديدة انطلق فيها احميدة الباهري من مدينة الدار البيضاء. ركز الكتاب في البداية على أن النواة الصلبة لمجموعة لَمْشَاهَبْ كانت تتألف من عناصر مراكشية، بينما لم تنضم شخصيات الحي المحمدي البيضاوية المعروفة إلا بعد إصدار الألبوم الأول، الذي كان ممولًا من شركة باركلي العالمية، وقد لعب احميدة دورًا محوريًا في هذا الألبوم، حيث قام بتلحين القطعتين اللتين تضمنهما، وكتب كلمات إحداهما بنفسه. وبفضل شبكة العلاقات الواسعة التي يتمتع بها الفنان الشريف لمراني، حققت المجموعة نجاحات متلاحقة، وأحيت عروضًا خارج المغرب.
لكن نشوة هذا النجاح لم تستمر طويلًا بالنسبة لحميدة الباهري، إذ سرعان ما نشب خلاف حول سلوكيات شقيقه محمد الباهري داخل المجموعة. تطور هذا الخلاف بشكل سريع، وانتهى بطرد محمد منها. واجه احميدة هذا القرار بالرفض، وأصر على مؤازرة أخيه، مما دفع مجموعة لمشاهب إلى اتخاذ قرار بطرد احميدة أيضًا إلى جانب شقيقه محمد.
يثير الكتاب العلاقة بين الأخوين الباهري، التي يبدو أنها لم تكن دائمًا على وفاق. حديث حميدة عن أخيه يُظهر نوعًا من التذمر المكبوت، الذي قيده احترامه للأخ الأكبر وروابط الأخوة. يُذكر أن الأخ محمد كان سببًا في مغادرة احميدة لمجموعة لمشاهب، كما أنه حال دون التحاقه بمجموعة تركية رأى احميدة أن مشروعها كان واعدًا لمستقبله الفني.
ترك احميدة الباهري مجموعة لمشاهب بعد أن لحن “الصَّايَگْ تَالَفْ”، وشارك في ألحان “طَل بّْعيِنِيكْ” و”احّْبَابِي وَاهّْلِي”، وهي روائع كانت جاهزة للأداء آنذاك. جاء قرار الطرد ليتركه في حالة من الضياع والتخبط، أشبه بمن ألقي في بحر متلاطم الأمواج. لكن سرعان ما وجد هو وأخوه طوق نجاة بفضل شخصيتين بارزتين في الميدان الفني: “أحمد شبارو” والفنان “بوجميع”، اللذين دعماهما وشجعا تأسيس مجموعة جديدة حملت اسم “لَجْوَادْ” سنة 1975، لتكون بداية جديدة تحمل آمالًا كبيرة.
لكن آلام الطرد من مجموعة لمشاهب ظلت حاضرة في ذهن احميدة الباهري، فظل يتحين الفرصة التي يثبت من خلالها لعناصر لمشاهب خطأ قرارهم القاسي، و يبدو أن نفس الهم كان دافعا للفنانة سكينة الصفدي نحو الالتحاق بمجموعة لجواد، فقد سعت بدورها إلى الانتقام لخروجها من مجموعة جيل جيلالة، فكانت فرقة لجواد وسيلة معركة رد الاعتبار بالنسبة للعنصرين، يبدو ذلك من خلال عنوان قطع الأغاني التي تضمنها ألبوم فرقة “لَجْوادْ” الأول، وألبوم “لَجْوَادْ وُسَكِينة”، اللذان جاءا بعناوين من قبيل “اتّْفَارقنَا” و”مَا ابْقيِتْ نّْتِيق” “ديرونا فبالكم” “يَبليكْ مَا بّْلانِي”، وكلها نصوص تمتح من معجم الغدر، والخيانة، ونكران الجميل…
لم يدم الوفاق طويلًا بين احميدة الباهري وسكينة داخل فرقة “لَجْوَادْ”، إذ ظهرت بوادر الانفصال منذ البداية نتيجة لمنطق التحكم والتوجيه الذي حاولت سكينة فرضه على المجموعة. وفي خطوة مفاجئة، رحلت سكينة بنفس الطريقة التي انضمت بها، دون سابق إنذار. ومع ذلك، يبدو أن احميدة قد استخلص دروسًا قيمة من هذه التجربة، حيث تمكن من إصدار أربعة ألبومات مميزة، وزاد انفتاحه على الساحة الفنية، مشكِّلًا شبكة علاقات واسعة دعمته في خوض مشروعه الجديد والفريد: التجربة الرائدة مع مجموعة “ابّْنَاتْ الغِيوَانْ”.
تناول الفصل الرابع من الكتاب تجربة احميدة الباهري مع مجموعة “ابّْنَاتْ الغِيوانْ”؛ إذا كانت فكرة تكوين مجموعة غنائية نسائية فعلا فكرة خلاقة، فقد وجبت الإشارة إلى أن حضور المرأة في الميدان كان وازنا قبل هذا مع سكينة الصفدي، وسعيدة بيروك، وجليلة ميگري، وأسماء لم يُكتب لها الاستمرار كحّْليِمَة حَجَّاجِي، وأسماء أخرى لم تقصص علينا بعد، كما أن هذه التجربة كانت قد قلدت تجارب سابقة منها فرقة “الثلاثي آمنا” ونماذج تراثية كانت منتشرة آنذاك مع فرق الحَضَّارَات، والعَوْنِيَّاتْ، والهُوَّاريَّاتْ، … إلا أن تطبيق الفكرة في ميدان “الغيوان” كان يتطلب ذكاء، وجرأة، وحسا إبداعيا، وكلها مواصفات توفرت لحظتها في احميدة الباهري.
يشير الكتاب إلى أن العلاقة المتميزة التي جمعت احميدة بالعربي باطما لعبت دورًا كبيرًا في اختيار اسم المجموعة، مما ساهم في شيوع لفظ “الغيوان” ليصبح عنوانًا لتيار فني بأكمله. وعلى الرغم من الجدل حول أصل الكلمة ومعناها، فإن “الغيوان” كمفهوم وتجربة فنية بدأ مع مجموعة ضمت أسماء بارزة مثل بوجميع، العربي باطما، عمر السيد، علال يعلى، مولاي عبد العزيز الطاهري، ومحمود السعدي. هذه المجموعة التي حملت الاسم “ناس الغيوان” حققت نجاحًا كبيرًا في المغرب، مما جعل من السهل اعتماد الاسم للدلالة على النمط الغنائي بأسره، بغض النظر عن اختلاف مسميات الفرق اللاحقة.
وهنا، يبرز سؤال مثير للاهتمام: ماذا لو اختارت المجموعة اسمًا مختلفًا، مثل “مجموعة الصفا”؟ هل كان هذا النمط سيُعرف بالاسم نفسه؟ الأمر ذاته تكرر مع “جيل جيلالة”، حيث أدى نجاحها إلى ربط اسم “الجيل” بهذا النوع الغنائي، وهو ما انعكس على أسماء مجموعات لاحقة مثل “جيل جانا” و”جيل عمراوة”.
أما مع مجموعة “لمشاهب”، فقد أطلقت نجاحاتها شرارة التأثير في ظهور فرق مستلهمة من اسمها ومنهجها الفني، مثل “الشهاب”، و”شهاب الحمرا”، و”جمرة”، و”اللهاب”. ورغم ذلك، بقيت الأسبقية والانتشار دائمًا لصالح الأسماء الرائدة التي حفرت وجودها في الذاكرة الفنية المغربية.
عمل احميدة الباهري على تأسيس مجموعته الجديدة والفريدة “ابنات الغيوان”، التي تكونت من أربعة عازفين وأربع فتيات مغنيات. بدأت المجموعة مشوارها الفني بتقديم أغاني ناس الغيوان، قبل أن تتجه نحو إنتاج أعمالها الخاصة، حيث أصدرت ما مجموعه عشرين ألبومًا، كان أولها عام 1984 وآخرها عام 2010. لم تواجه “ابنات الغيوان” أي اعتراض أو تحفظ من مجموعة ناس الغيوان، بل على العكس، حظيت بدعم وتشجيع كبيرين، خاصة من العربي باطما، الذي شارك في إنتاج أحد ألبوماتها عام 1991. كما تعاملت المجموعة مع كلمات شعراء بارزين مثل عبد العزيز الطاهري، ومصطفى بغداد، وآخرين. بفضل هذا الدعم والإبداع الفني، تمكنت “ابنات الغيوان” من تحقيق شهرة واسعة في وقت وجيز، لتصبح واحدة من التجارب الفنية المتميزة في الساحة المغربية، مؤكدةً مكانتها كامتداد مبدع للتراث الغيواني الأصيل.
لم يتوقف طموح حميدة الباهري عند هذا الحد، بل إن الرجل تابع طريقه دون ثبات على نمط معين، أو خوف من التجديد وإن كان مرفوقا ببعض المغامرة، ذلك أن طبيعة تكوين مجموعة بنات الغيوان، وتراجع سوق إنتاج الأشرطة، وبروز ظاهرة القرصنة، وظهور أنماط غنائية جديدة مال معها الجمهور المغربي، خاصة الشبابي، كلها عوامل رأى فيها احميدة داعيا إلى ضرورة التحول نحو شكل يستجيب للطلب الجديد، فكان دخول تجربة الأغنية التجارية مع فرقة “أورْكِسترَا احّْمِيدَة”.
يتطرق الفصل الخامس من الكتاب لتجربة “أوركسترا احميدة”، وهي تجربة ابتدأت في مطلع التسعينات، ويقدم لها احميدة مجموعة من التبريرات والدوافع، مبرزا أنها تحوُّل عام في التوجه فرض عليه فرضا بفعل تضافر ظروف ذاتية وموضوعية، فبرز التحول في إنتاجاته الفنية على مستوى الشكل والموضوع، وكانت النتيجة أحد عشر ألبوما، لا ينكر احميدة أنها كانت تجارية، الغاية منها تحقيق مورد دخل قار.
لقد استطاعت تجربة “أوركسترا احميدة” أن تحقق ظهورا كبيرا زادت معه المكانة التسويقية لفن احميدة الباهري، فأضافت للنجاح الفني الذي سبقها، نجاحا آخر من حيث المدخول المادي، والشهرة، والتألق؛ وبعد أن كانت صورة احميدة تصدر على أغلفة الأشرطة السابقة بمعية صور عناصر أخرى، فإنها مع تجربة “الأوركسترا” أصبحت منفردة، وفي ذلك اعتراف بمجهود فردي لطالما ظل محسوبا للمجموعة، ليبرز احميدة أخيرا ككيان مستقل يستحق الإشادة.
يبدو أن علاقة احميدة بالغناء المجموعاتي كانت أعمق من أي تجربة فردية، إذ سرعان ما تلقى دعوة من الفنان عبد الكريم القسبَجي للانضمام إلى مجموعة جيل جيلالة، بهدف تعويض الفراغ الذي خلفته مغادرة الفنان محمد الدرهم، وذلك في مرحلة شهدت فيها المجموعة ركودًا إبداعيًا مع نهاية التسعينيات. بفضل مهاراته في بناء العلاقات، تمكن احميدة من مساعدة المجموعة على تقديم عمل جديد وضمان منتجين لتمويل إصداره عام 1998. ومع ذلك، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها لإعادة إحياء المجموعة، ظل يُعامل كعضو من الدرجة الثانية. وقد تجلى ذلك بوضوح عندما أصر مولاي الطاهر الأصبهاني على أن يقف احميدة خلف باقي أعضاء المجموعة أثناء العروض، بالإضافة إلى الأجواء المشحونة بمنطق التحكم الذي كان يسود داخل المجموعة، لتنتهي تجربة احميدة مع جيل جيلالة سنة 2001.
جمع الفصل السابع من الكتاب مجموعة من التجارب الفنية لاحميدة الباهري مع عدد من وجوه الفن الشعبي، والعصري، منهم “لبْنَى عَفيِف”، و”عَائشِة تَشِنيويتْ”، و”شِيخَاتْ واد زم”، و”حفيظة الحَسناويَّة”، وتجربة إنشاء مجموعة في المهجر تحت مسمى “اهل الحال”، ونظرا لكون هذه التجارب لم تكن ذات صدى مهم فقد وضعها المؤلف تحت إسم “تجارب يتيمة”، ليتطرق في الفصلين الثامن والتاسع لمرحلة خاصة ومهمة تعتبر تتويجا للمسار الفني لاحميدة الباهري ألا وهي محطة الانفتاح على السينما والتلفزيون.
كثيرة هي الشخصيات التي طبعت مسار الفنان احميدة الباهري، وقد كان حضور الفنان عبد القادر مطاع علامة بارزة في ولوج ميدان لم يجرُؤ على اقتحامه الكثير من أنداده في الميدان، ألا وهو مجال الإشهار، ومنه دخول باب أرحب يؤدي نحو فضاء تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات.
لم تكن تجربة الإشهار سهلة على احميدة الباهري، فقد تطلبت اطلاعا على الشروط التقنية المختلفة الخاصة بالمجال، كما استلزمت ذكاء، وفطنة أحسن احميدة الباهري توظيفهما لتحقيق نجاح لافت في الميدان؛ قد يستغرب القارئ للكتاب حينما يدرك أن أعمالا إشهارية طبعت الساحة الإعلامية في فترة من الفترات، كانت ألحانها من إبداع احميد الباهري، نذكر على سبيل المثال الشخصيتين الكرتونيتين “عْلِي وابّْرَاهِيمْ” التين استعملتا في الترويج لمؤسسة البنك الشعبي، ولا أدل على تميز هذا الإشهار، النجاح الكبير الذي لقيه في أوساط المغاربة والذي امتد صداه إلى المحافل الفنية الكبرى، لما حصل على الجائزة الأولى بمهرجان كان الدولي للإشهار بفرنسا سنة 1984، لقب آخر يضاف إلى قائمة التميز الفني لاحميدة الباهري.
لم يتوقف افتتان احميدة الباهري بمختلف أشكال العمل الغنائي عند هذا الحد، إذ سرعان ما دفعه شغفه الفني إلى اقتحام مجالات فنية أخرى وصلت حد وضع الموسيقى التصويرية، وألحان الجنيريك لأعمال تلفزية، نذكر من بينها ثلاثة سيتكومات منها سيتكوم “خَالِي عْمَارَة”، وستة أعمال سينمائية من بينها فيلم “الزَّفْتْ” للطيب الصديقي، و”النَّاعُورَة” لعبد الكريم الدرقاوي، بل واقتحام مجال التمثيل في شريط سينمائي تحت عنوان “عَلاَّمْ الخَيل” من إخراج الفنان الكبير إدريس شويكة.
يتوقف الكتاب عند سنة 2016 ضمن مسار الفنان حميدة الباهري الذي ابتدأ بتاريخ 1972، مسار فني امتد على مدار 44 سنة، عمل الكتاب على تقديمه للقارئ وفق رؤية توافقيه؛ إذ تجنب الخوض في الكثير من الأمور الخلافية، والمواقف الصعبة التي عاشها احميدة الباهري في علاقته مع أقرانه من رواد المجموعات الغنائية، ورغم الحرص الواضح على اختيار العبارات، والألفاظ، وتجنب اللغة التقريرية، فإن الأمر لم يحل دون إمكانية استنباط وضعيات التشنج الكثيرة التي تعمد المؤلف عبر صفحات الكتاب إخفاءها متبنيا منطق التجاوز ولغة المصالحة.
لقد قدم أنس الملحوني من خلال حياة احميدة الباهري فرصة نادرة لعيش “لحظة الذاكرة” بعيدا عن التصورات المعتادة؛ فإذا كان هذا المفهوم لصيق لحظات المآسي، وسنوات القسوة والرصاص، فإن كتابا حول سيرة احميدة الباهري يقدمه لنا في صورة مختلفة، صورة جمالية مفعمة بالإبداع، وذلك عبر استعراض حياة احميدة الباهري تاركا للقارئ مهمة استنباط دور الرجل كفرد ساهم في بناء تاريخ الجماعة، وهويتها المشتركة. إن تصفح الكتاب مناسبة للاطلاع على شخصية احميدة الباهري التي لا يعرف عنها المغاربة سوى صورة عابرة نادرا ما تبث على شاشة التلفزة، إنها فرصة لاكتشاف حقيقة الصورة، صورة ذاك الرجل النحيل، دائم الابتسام، الممسك بين يديه آلة بانجو من الحجم الكبير حيث يبدو ـ وهو يتمايل على أنغام موسيقاه ـ كأنه قد امتطى صهوة آلته الموسيقية محلقا على متنها في نشوة لا تتصور. لقد كرّس الرجل حياته للفن بكل تفانٍ، فكان شاعراً وملحناً لأنماط غنائية متنوعة، منفتحاً على مختلف أشكال التعبير الفني، في حالة استثنائية من الاجتهاد، والصبر، والمثابرة التي قلّ نظيرها.
زهير شمشوب – باحث في تاريخ المغرب المعاصر
الدار البيضاء في 02 يناير 2025