المدينةمراكش

” بعيدا عن الضريح “.. العيش داخل وخارج المشروع اليساري !

بقلم: محمد المراكشي

بسم الله الرحمان الرحيم ..

سعيد بمشاركتكم احتفال مراكش بابنها الاخ ابو العزم .” مدينة الأنس والوفاء الخالص ” على قول الشاعر”بن براهيم”، امرأة شديدة التعلق بابنها السي عبدالغني ، ترتدي اليوم جلبابها وتحمل قارورة عطر الزهر قصد زيارة زاوية سيدي بلعباس والدعاء للأخ أبو العزم بطول العمر والمزيد من العطاء ..

احتفاء اليوم يشعل في الوجدان روح أخوة طاهرة جمعتني بالسي عبد الغني لأزيد من 40 سنة . توطدت برفقة صحفية في جريدة “أنوال”، مباشرة بعد عودته من المنفى عام 1983( مع السي يقطين وأحبة مراكشيين تذكرونهم ولا شك : الأساتذة طليمات والأطلسي وكومينة والطالبي ) .

مع السي عبدالغني خضنا أيضا ” نزال” ما كان يعرف ب”اليسار المغربي” ، الذي رأى النور في فراش هزيمة العرب 67 . و” فقد مبكرا القدرة على بلورة الأهداف . فلم يتجاوز قط المخاض الأصغر” كما وصفه السي عبدالغني في سيرته الشعرية سنة 2018.
معذرة ، رغم بعدي عن موقع الناقد الأكاديمي/ المختص . أجازف بالقول ، أن هذه السيرة أصدق تعبير عن الحوار المتوتر بين المثقف المراكشي الأصيل والثائر اليساري الجذري في الربع الأخير من القرن الماضي . حوار يكشف ” أسرار” تجربة تميزت بمرارة ” العيش داخل وخارج اليسار المغربي ” كما جاء في وصف الأستاذ يقطين ، بمناسبة مناقشة أخوية خاصة وغنية دارت بيننا سنة 2021 …

سأكتفي بإشارات خفيفة تهم قضيتين (من تجربة شغلت حوالي 200 صفحة من أصل 340 ) . أولاهما : ماركسية “يسار السبعينات ” (قبل نصف قرن) في ميزان النظر النقدي لمثقفين ؟ ( مستحضرا منهجية التواتر التي أعتمدها القدامى مثل الطبري وابن كثير وابن حبان ووو).

ثانيا محاولة الاقتراب من فهم أسباب ” معاناة ” السي عبدالغني مع رفاقه ؟

“بعيدا عن الضريح” اختارت منذ البداية سرد واقعة قوية الدلالة . انتفاضة الشاب عبدالغني الاتحادي في وجه القائد الاستاذ اليازغي . للتعبير عن رفضه قرار الاتحاد تطبيع العلاقة مع حزب بورقيبة التونسي ( دعوة أريحا سنة 65 قبول تقسيم 47 / الأمم م ) ؟ إن ذكر تونس في تفاعل مع موضوع فلسطين إشارة موفقة إلى الصدمة القوية التي خلفتها هزيمة 67 ، باعتبارها من أهم محركات تأسيس “اليسار الجديد ” ، بعد الزلزال القوي الذي استهدف بنيان تفكيرنا كمغاربة – والعقل العربي عامة – بعد صدمة الاستعمار؟
++++++
على هامش هذه الواقعة التي تحيلنا إلى “الغضب العارم” لمجموعة الشباب ( أساسا طلبة وتلاميذ ) التي توغلت في عشق التمرد والثورة على كل شيء – تماهيا مع ماي 68 الفرنسي- فكانت الشعارات سيوفا أكبر من قامات هؤلاء الشباب . ووقع ما واقع ..
لقد ملأت “غضبة ” شباب هزيمة 67 كتاب تأسيس “اليسار الجديد” . وبلغة أيديولوجية ثائرة/ رافضة للمؤسسات السياسية والدينية القديمة ، باعتبارها “مصدر البلاء ” ! وفي الماركسية الخلاص / الخلاص !!

في نفس هذه الظروف ، رأت النورأعمال مفكرين – مغاربة وأجانب – طرقوا بقوة العلم والاجتهاد أبواب المجتمع الغارق في ” ظلمة “الانكسارات بعد حالة الاستثناء 1965 وهزيمة 67 !

في الكتاب/الملحمة “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” للمفكر المغربي عبدالله العروي الصادر سنة 1967 نقدا “مبطنا” للناصرية التي – حسب العروي – قامت بتغييرات كبرى . لكنها ” تغييرات بدون روح ” وبدون أفق. في غياب الأساس الثقافي/ الفكري .. كما وجه العروي نقده الصريح والقوي للعرب معتنقي “الماركسية التقليدية ” ( المقدس الجديد ! ) التي يعتبرها جزء من الأزمة ، ودافع عن “التاريخانية” منهجا شاملا لفهم التاريخ ، مرتبطة بالظروف المادية والثقافية والروحية التي تحيط بها ..

في نفس الظروف صدرت اجتهادات المفكر طه عبد الرحمان التي طالت نقد بنية “عقلنا ” وفهمنا للحداثة “المقلدة” للغرب والمنقطعة عن المسار المادي الروحي لحياتنا ..

صدر الكتاب الأول لطه عبد الرحمن (اللسان والميزان سنة 79 ) ثم كتاب “العمل الديني وتجديد العقل”،الذي يناقش اطروحة التجديد الديني وأهمية تجديد العقل المسلم بتوافق مع التحديات المعاصرة.

وغير بعيد عن ضريح ” مولاي إدريس ” وجامعة فاس ، وفي نفس الزمان (بداية سبعينات القرن الماضي) كان يقيم عالم فذ أوقف حياته وعلومه الغزيرة على رفع الفنون الإسلامية إلى الذروة ، و”فرضها” على المتاحف العالمية الكبرى في واشنطن ولندن وباريس ، بفضل جهوده العلمية الحاسمة . العالم السويسري /الألماني ابراهيم تيتوس بوخاردت (1908/1984 ) الذي أزال عن العين ” غشاوة ” جهل الحضارة الإسلامية . بفضل التمكن من الصحوة المعرفية والروحية العارمة التي قادها علماء كبار مثل ابن عربي ، واقترنت بالحضارة التي أنتجت المباني والفنون والمدن مثل مراكش وفاس . وستعمل اجتهادات تيتوس بوخاردت الثاقبة على تعريف الغرب وجامعاته بالقيم النبيلة والفنون الراقية الجميلة التي ميزت الحضارة الإسلامية التي أبدعت توازنا مذهلا بين مطالب الإنسان المادية وحاجاته الروحية،باعتبارهما مظهران للكمال كما ورد في الحديث النبوي الشريف “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”.

في استعراضها لتجربة اليسار خاصة فصيل 23 مارس ، قدمت ” بعيدا عن الضريح ” إشارات نقدية ، لكنها تجنبت – بحق – القول الفصل في التجربة . ولربما استحضرت “حكمة ” الشاعر نزار قباني التي “انشدها ” في آخر سهرة شعرية له في واشنطن :
” من حاول دخول حجرتها ..من حاول فك ضفائرها ، من دنا من صور حديقتها . مفقود .مفقود ”
+++++++++++

… بين سطور” بعيدا عن الضريح” تسكن ذكريات جريحة ، بفعل ضربات ” الاخوة في النضال ” ..

فهل بسبب “مزاج” السياسي الذي لايتحمل ” تمرد المثقف “؟ ام بسبب خلافات السي عبدالغني مع التوجه العام لرفاقه ؟

من أعجب الاتهامات التي وجهت للأخ أبو العزم ، بعد اقتراف “جرم ” الانخراط في البحث العلمي ، كما تروي سيرة ” بعيدا عن الضريح ” :
” لقد اخترت توسيع صفوف البرجوازية بتوسيع رقعة حاملي الشهادات البيروقراطية ”
وانا احاول تجديد فهم هذه المظالم ، زاغ الخيال إلى فرضيتين :
في الأولى ازعم ، والفضل يعود الى الكتاب الجديد للمثقف المراكشي الاستاذ حسن المودن ” الاخوة الأعداء ” . بعد اكتشافه عقدة جديدة تساعد على تعميق فهم أزمات الإنسان النفسية ( عقدة الاخوة العقدة الكبرى في المحكيات الابراهيمية ) … الأستاذ حسن المودن لم يكتف بالجاحظ ( على قدر الحب والقرب يكون البعد والبغض ) ، بل اعتمد على آخر الأبحاث ل “روني كاييس” التي لا تكتفي في تحديد سمات هذه العقدة اللاواعية العجيبة التركيب : المحبة والكراهية ، الحسد والتنافس الوجداني ، الغيرة والتماهي مع الآخرالشبيه والمختلف ، الانجذاب والنفور(اريد امتلاك ما يملك اخي لكي أكون ماهو عليه ، وإلا فلابد من تدميره/ ميلاني كلاين ) ..

“بعيدا عن الضريح” وهي تشير إلى ظلم ذوي القربى/ الإخوة ، قد لا تبتعد كثيرا عن أعمال الباحث الأستاذ المودن التي تفترض موقع الاخ بنفس أهمية الرفيق المنخرط في المسار “الأيديولوجي السياسي”. مقترحا “قابيل” إسما لعقدة الأخوة التي تشهد على أول جريمة في تاريخ الإنسان : اخ يقتل اخاه ..( الطبري ورواية اقتتال التوامان في البطن يعقوب وعيص ) .

بعيدا عن التحليل النفسي ، أقدم الفكرة الثانية عبرواقعة قديمة – بليغة الدلالة والمعنى – كشفها الأستاذ عبدالله العروي في حوار حديث بأبوظبي . جوابا عن طلب من صديقه المهدي بن بركة – قبل أكثر من 70 سنة – الكتابة في جريدة ” الاستقلال “..لقد استجاب الأستاذ العروي شرط أن تقتصر الكتابة على ميدان السينما بعيدا عن السياسة. أما سبب هذا الاختيارالمتعمد – يقول الأستاذ العروي -” تجنب التشويش على السياسيين ” . وفي ذلك استحضار لحكمة ” ابن خلدون ” : ” أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها ” ..
أما السي عبدالغني “بعيدا عن الضريح “، فلقد تميزت علاقته بالمسافات – التي تكبر وتصغر- مع التنظيم . إلى أن تم الحسم في اتجاه ابن خلدون . تعبيرا عن انحياز فكري حاسم إلى قضايا الواقع والتاريخ والإنسان ..
في مساره العلمي ، وجب التنويه
بالإضافة إلى معجم “الغني الزاهر ” بوصفه اضافة قيمة للمكتبة اللغوية العربية ، تبرز أيضا 3 أعمال جليلة القدر( شخصية المحقق التراثي المتحلي بالصبر والأناة لاستخراج الحقائق من نصوص قديمة حسب أصول معلومة )
1/ تحقيق علمي دقيق ورصين ل “أعز ما يطلب ” / ابن تومرت (القرن 12). الوثيقة المحورية في التعبير عن التوجه الإصلاحي / الديني لابن تومرت وموقعه الراسخ في تأسيس الحركة والدولة الموحدية القوية في شمال إفريقيا والأندلس ( تحقيق يقارن النسخ ويضيف مقدمة تاريخية ) …
2/ كتاب فريد وقيم بعنوان “أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة ” .. وفيه يتم تقديم وتحقيق ومعجمة وثيقة هامة تأصيلية ل “الطبخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين ” ..الكتاب الذي ينفض الغبار عن ثقافة مطبخية مغربية ذات أصول حضارية وعلمية تستند الى أطباء وعلماء العصر الموحدي ..وقد تمكن الكتاب بجودته الرفيعة من التفاعل مع انتظارات الكثير من ” الشافات ” ( مهنيو الطبيخ ) المغاربة – مثل الشاف موحا – من التفنن في وصفات أصيلة ب “أخلاط ” توابل وألوان الخل ( الأطعمة المذكرة والأطعمة المؤنثة التي تجلب المنفعة و تدفع الضرر )
3/ المساهمة في ترجمة كتاب “واتر بوري ” :”أمير المؤمنين ، الملكية والنخبة السياسية المغربية”. والفكرة الكبرى لهذه الترجمة تقديم تحليل عميق للنظام السياسي في المغرب، خاصة ما يتعلق بالعلاقة بين الملكية والنخب السياسية. بنية السلطة في المغرب وكيفية تأثير النخبة السياسية على الحوكمة وصنع القرار. وقد ساهمت الترجمة في فهم أعمق وأفضل للديناميكيات السياسية المغربية والتحديات التي تواجهها الملكية في سياق التغيرات الاجتماعية والسياسية.
ليلة رجوعه إلى المغرب 28/10/1982 ، كتب قصيدة أهداها الى صديقه الحميم الأستاذ أحمد توفيق ( هكذا حدثني الحب ) استهلها :
” أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه ،، فالحب ديني وإيماني” ..
تحية تقدير ومحبة للأخ السيد عبد الغني وأسرته وفي المقدمة الزوجة الأصيلة السيدة أن ماري ..
والسلام عليكم ورحمة الله ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى